فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{إِنّا أرْسلْنا إِليْكُمْ رسُولا شاهِدا عليْكُمْ كما أرْسلْنا إِلى فِرْعوْن رسُولا (15)}
نقل الكلام إلى مخاطبة المشركين بعد أن كان الخطاب موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
والمناسبة لذلك التخلصُ إلى وعيدهم بعد أن أمره بالصبر على ما يقولون وهجرهم هجرا جميلا إذ قال له {وذرني والمكذبين} إلى قوله: {وعذابا أليما} [المزمل: 1113].
فالكلام استئناف ابتدائي، ولا يُعد هذا الخطاب من الالتفات لأن الكلام نقل إلى غرض غير الغرض الذي كان قبله.
فالخطاب فيه جار على مقتضى الظاهر على كلا المذهبين: مذهب الجمهور ومذهب السكاكي.
والمقصود من هذا الخبر التعريض بالتهديد أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم ممن كذبوا الرسل فهو مثل مضروب للمشركين.
وهذا أول مثل ضربه الله للمشركين للتهديد بمصير أمثالهم على قول الجمهور في نزول هذه السورة.
واختير لهم ضرب المثل بفرعون مع موسى عليه السلام، لأن الجامع بين حال أهل مكة وحال أهل مصر في سبب الإِعراض عن دعوة الرسول هو مجموع ما هم عليه من عبادة غير الله، وما يملأ نفوسهم من التكبر والتعاظم على الرسول المبعوث إليهم بزعمهم أن مثلهم لا يطيع مِثله كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: {فقالوا أنؤمن لبشرين مثِلنا وقومُهما لنا عابدون} [المؤمنون: 47] وقد قال أهل مكة {لولا نُزِّل هذا القرءان على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31] وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا {لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوْا عُتُوّا كبيرا} [الفرقان: 21].
وقد تكرر في القرآن ضرب المثل بفرعون لأبي جهل وهو زعيم المناوين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤلبين عليه وأشد صناديد قريش كفرا.
وأُكد الخبر بـ (إنّ) لأن المخاطبين منكرون أن الله أرسل إليهم رسولا.
ونكر {رسولا} لأنهم يعلمون المعنيّ به في هذا الكلام، ولأن مناط التهديد والتنظير ليس شخص الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو صفة الإِرسال.
وأدمج في التنظير والتهديدِ وصفُ الرسول صلى الله عليه وسلم بكونه شاهدا عليهم.
والمراد بالشهادة هنا: الشهادة بتبليغ ما أراده الله من الناس وبذلك يكون وصف {شاهدا} موافقا لاستعمال الوصف باسم الفاعل في زمن الحال، أي هو شاهد عليكم الآن بمعاودة الدعوة والإِبلاغ.
وأما شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة فهي شهادة بصدق المسلمين في شهادتهم على الأمم بأن رسلهم أبلغوا إليهم رسالات ربّهم، وذلك قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} كما ورد تفصيل تفسيرها في الحديث الصحيح، وقد تقدم في سورة البقرة (143).
{وتنكير رسولا} المرسل إلى فرعون لأن الاعتبار بالإِرسال لا بشخص المرسل إذ التشبيه تعلق بالإِرسال في قوله: {كما أرسلنا إلى فرعون} إذ تقديره كإرسالنا إلى فرعون رسولا.
وتفريع {فعصى فرعون الرسول} إيماء إلى أن ذلك هو الغرض من هذا الخبر وهو التهديد بأن يحلّ بالمخاطبين لمّا عصوا الرسول صلى الله عليه وسلم مِثلُ ما حلّ بفرعون.
وفي إظهار اسم فرعون في قوله: {فعصى فرعون} دون أن يؤتى بضميره للنداء عليه بفظاعة عصيانه الرسول.
ولما جرى ذكر الرسول المرسل إلى فرعون أوّل مرة جيء به في ذكره ثاني مرة معرفا بلام العهد وهو العهد الذكري، أي الرسول المذكور آنفا فإن النكرة إذا أعيدت معرفة باللام كان مدلولها عين الأولى.
والأخذ مستعمل في الإِهلاك مجازا لأنه لما أزالهم من الحياة أشبه فعله أخذ الآخذ شيئا من موضعه وجعله عنده.
والوبيل: فعيل صفة مشبهة من وبُل المكان، إذا وخِم هواؤه أو مرعى كلئِه، وقال زهير:
إلى كلإٍ مُسْتوبِلٍ مُتوخِّم

وهو هنا مستعار لسيّئِ العاقبة شديد السوء، وأريد به الغرق الذي أصاب فرعون وقومه.
{فكيْف تتّقُون إِنْ كفرْتُمْ يوْما يجْعلُ الْوِلْدان شِيبا (17)}
الاستفهام بـ (كيف) مستعمل في التعجيز والتوبيخ وهو متفرع بالفاء على ما تضمنه الخطاب السابق من التهديد على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وما أدمج فيه من التسجيل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم شاهد عليهم فليس بعد الشهادة إلاّ المؤاخذة بما شهد به، وقد انتقل بهم من التهديد بالأخذ في الدّنيا المستفاد من تمثيل حالهم بحال فرعون مع موسى إلى الوعيد بعقاب أشد وهو عذاب يوم القيامة وقد نشأ هذا الاستفهام عن اعتبارهم أهل اتِّعاظ وخوف من الوعيد بما حلّ بأمثالهم مما شأنُه أن يثير فيهم تفكيرا من النجاة من الوقوع فيما هُدِّدوا به، وأنهم إن كانوا أهل جلادة على تحمل عذاب الدّنيا فماذا يصنعون في اتقاء عذاب الآخرة، فدلّت فاء التفريع واسم الاستفهام على هذا المعنى.
فالمعنى: هبكم أقدمتم على تحمل عذاب الدنيا فكيف تتقون عذاب الآخرة، ففعل الشرط من قوله: {إِنْ كفرتم} مستعمل في معنى الدوام على الكفر لأن ما يقتضيه الشرط من الاستقبال قرينة على إرادة معنى الدّوام من فعل {كفرتم} وإلاّ فإن كفرهم حاصل من قبل نزول هذه الآية.
و{يوما} منصوب على المفعول به ل {تتقون}.
واتقاء اليوم باتقاء ما يقع فيه من عذاب أي على الكفر.
ووصف اليوم بأنه {يجعل الولدان شيبا} وصف له باعتبار ما يقع فيه من الأهوال والأحزان، لأنه شاع أن الهم مما يسرع به الشيب فلما أريد وصف همّ ذلك اليوم بالشدة البالغة أقواها أسند إليه يشيب الولدان الذين شعرهم في أول سواده.
وهذه مبالغة عجيبة وهي من مبتكرات القرآن فيما أحسب، لأني لم أر هذا المعنى في كلام العرب وأما البيت الذي يذكر في شواهد النحو وهو:
إذن والله نرميهم بحرب ** تُشيب الطفل من قبل المشيب

فلا ثبوت لنسبته إلى من كانوا قبل نزول القرآن ولا يعرف قائله، ونسبه بعض المؤلفين إلى حسان بن ثابت.
وقال العيني: لم أجده في ديوانه.
وقد أخذ المعنى الصمّة ابن عبد الله القشيري في قوله:
دعاني من نجدٍ فإن سنينه ** لعِبْن بنا شِيبا وشيبننا مردا

وهو من شعراء الدولة الأموية وإسناد {يجعل الولدان شيبا} إلى اليوم مجاز عقلي بمرتبتين لأن ذلك اليوم زمن الأهوال التي تشيب لمثلها الأطفال، والأهوال سبب للشيب عرفا.
والشيب كناية عن هذا الهول فاجتمع في الآية مجازان عقليان وكناية ومبالغة في قوله: {يجعل الولدان شيبا}
وجملة {السماء منفطر به} صفة ثانية.
والباء بمعنى (في) وهو ارتقاء في وصف اليوم بحدوث الأهوال فيه فإن انفطار السماء أشد هولا ورعبا مما كني عنه بجملة {يجعل الولدان شيبا}.
أي السماء على عظمها وسمكها تنفطر لذلك اليوم فما ظنكم بأنفسكم وأمثالكم من الخلائق فيه.
والانفطار: التشقق الذي يحدث في السماء لنزول الملائكة وصعودهم كما تقدم في قوله تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه} في سورة المعارج (4).
وذكر انفطار السماء في ذلك اليوم زيادة في تهويل أحواله لأن ذلك يزيد المهددين رعبا وإن لم يكن انفطار السماء من آثار أعمالهم ولا له أثر في زيادة نكالهم.
ويجوز أن تجعل جملة {السماء منفطر به} مستأنفة معترضة بين جملة {فكيف تتقون} الخ، وجملة {كان وعده مفعولا} والباء للسببية ويكون الضمير المجرور بالباء عائدا إلى الكفر المأخوذ من فعل {كفرتم}.
ويجوز أن يكون الإِخبار بانفطار السماء على طريقة التشبيه البليغ، أي كالمنفطر به فيكون المعنى كقوله تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمان ولدا لقد جئتم شيئا إدّا يكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا} [مريم: 88 90].
ووصف السماء بمنفطر بصيغة التذكير مع أن السماء في اللغة من الأسماء المعتبرة مؤنثة في الشائع.
قال الفراء: السماء تذكّر على التأويل بالسقف لأن أصل تسميتها سماء على التشبيه بالسقف، أي والسقف مُذكر والسماء مؤنث.
وتبعه الجوهري وابن برّي.
وأنشد الجوهري على ذلك قول الشاعر:
فلو رفع السماءُ إليه قوما ** لحقنا بالسماء مع السحاب

وأنشد ابن برّي أيضا في تذكير السماء بمعنى السقف قول الآخر:
وقالت سماءُ البيت فوقك مُخْلقٌ ** ولمّا تيسّر اجْتِلاءُ الركائب

ولا ندري مقدار صحة هاذين الشاهدين من العربية على أنه قد يكونان من ضرورة الشعر.
وقيل: إذا كان الاسم غير حقيقي التأنيث جاز إجراء وصفه على التذكير فلا تلحقه هاء التأنيث قياسا على الفعل المسند للمؤنث غير حقيقي التأنيث في جواز اقترانه بتاء التأنيث وتجريده منها، إجراء للوصف مجرى الفعل وهو وجيه.
ولعل العدول في الآية عن الاستعمال الشائع في الكلام الفصيح في إجراء السماء على التأنيث، إلى التذكير إيثارا لتخفيف الوصف لأنه لما جيء به بصيغة منفعل بحرفي زيادة وهما الميم والنون كانت الكلمة معرضة للثقل إذا ألحق بها حرف زائد آخر ثالث، وهو هاء التأنيث فيحصل فيها ثقل يجنّبه الكلام البالغ غاية الفصاحة ألا ترى أنها لم تجر على التذكير في قوله: {إذا السماء انفطرت} [الانفطار: 1] إذ ليس في الفعل إلاّ حرف مزيد واحد وهو النون إذ لا اعتداد بهمزة الوصل لأنها ساقطة في حالة الوصل، فجاءت بعدها تاء التأنيث.
وجملة {كان وعده مفعولا} صفة أخرى ل {يوما} وهذا الوصف إدماج للتصريح بتحقيق وقوع ذلك اليوم بعد الإِنذار به الذي هو مقتض لوقوعه بطريق الكناية استقصاء في إبلاغ ذلك إلى علمهم وفي قطع معذرتهم.
وضمير {وعده} عائد إلى {يوما} الموصوف، وإضافة (وعد) إليه من إضافة المصدر إلى مفعوله على التوسع، أي الوعد به، أي بوقوعه.
{إِنّ هذِهِ تذْكِرةٌ فمنْ شاء اتّخذ إِلى ربِّهِ سبِيلا (19)}
تذييل أي تذكرة لمن يتذكر فإن كان من منكري البعث آمن به وإن كان مؤمنا استفاق من بعض الغفلة التي تعرض للمؤمن فاستدرك ما فاته، وبهذا العموم الشامل لأحوال المتحدث عنهم وأحوال غيرهم كانت الجملة تذييلا.
والإِشارة بـ {هذه} إلى الآيات المتقدمة من قوله: {إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم} [المزمل: 15].
وتأكيد الكلام بحرف التأكيد لأن المواجهين به ابتداء هم منكرون كون القرآن تذكرة وهدى فإنهم كذبوا بأنه من عند الله ووسموه بالسحر وبالأساطير، وذلك من أقوالهم التي أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبر عليها قال تعالى: {واصبر على ما يقولون} [المزمل: 10].
والتذكِرة: اسم لمصدر الذُكر بضم الذال، الذي هو خطور الشيء في البال، فالتذكرة: الموعظة لأنه تذكر الغافل عن سوء العواقب، وهذا تنويه بآيات القرآن وتجديد للتحريض على التدبر فيه والتفكر على طريقة التعريض.
وفرع على هذا التحريض التعريضيّ تحريضٌ صريح بقوله: {فمن شاء اتخذ إلى ربّه سبيلا} أي من كان يريد أن يتخذ إلى ربّه سبيلا فقد تهيأ له اتخاذ السبيل إلى الله بهذه التذكرة فلم تبق للمتغافل معذرة.
والإِتيان بموصول {من شاء} من قبيل التحريض لأنه يقتضي أن هذا السبيل موصل إلى الخير فلا حائل يحول بين طالب الخير وبين سلوك هذا السبيل إلاّ مشيئته، لأن قوله: {إن هذه تذكرة} قرينة على ذلك.
ومن هذا القبيل قوله تعالى: {وقل الحقُ من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29].
فليس ذلك إباحة للإِيمان والكفر ولكنه تحريض على الإِيمان، وما بعده تحذير من الكفر، أي تبعة التفريط في ذلك على المفرط.
ولذلك قال ابن عطية: ليس معناه إباحة الأمر وضده بل يتضمن معنى الوعد والوعيد.
وفي تفسير ابن عرفة الذي كان بعض شيوخنا يحملها على أنه مخير في تعيين السبيل فمتعلق التخيير عنده أن يبين سبيلا ما من السُبل قال: وهو حسن، فيبقى ظاهر الآية على حاله من التّخيير. اهـ.
وقد علمت ممّا قرّرناه أنه لا حاجة إليه وأن ليس في الآية شيء بمعنى التخيير.
وفي قوله: {إلى ربّه} تمثيل لحال طالب الفوز والهُدى بحال السائر إلى ناصر أو كريم قد أري السبيل الذي يبلِّغه إلى مقصده فلم يبق له ما يعوقه عن سلوكه. اهـ.